سليم بركات: الاسم الكردي المعرَّف به عربياً

ابراهيم محمود

عن القدس العربي

سليم بركات الكاتب الكردي شاعراً، وروائياً ومحرّرَ مقالات جامعة بينهما أسلوب كتابة، اكتشاف عربي من ألفه إلى يائه.

ليس لدى بركات من يكاتبه كردياً، بينما هناك الكثير ممَّن يكاتبهم عربياً.

لا نعثر في نصوص بركات، جهة الذي يقيم معه علاقة ذات فضيلة كتابية، ومؤانسة كتابية، ومستلهَم كتابة، أي حضور للكردي الآخر، والذي يعرَف به كردياً مثله، بينما الآخر الذي يستعان به، تقديراً، لقراءته، والتعريف به، وانتظار رأيه فيه، مهما كان التعريف به غامضاً، سياسة أسلوب في الكتابة لديه، والتي يبدو أنه يعلَم بمغزاها جيداً، الآخر الذي يشدَّد عليه، هو عربي بامتياز .

قارئه العربي هو محكُّه ورهانه، مرتجاه وشكواه، ومحفّزه على الكتابة، والإقامة في الحياة التي اختارها بطريقته، وليس من قارىء كردي، يمكن إشهار اسمه، أو تنوير، أو إيجاد أي موقع له، ولو في هامش متن أي نص له .

لا تهم بركات شهادة كرديّه بوصفه كاتباً، أو قارئاً له رصيده الاعتباري في مكاشفة نصه، حيث لا أثر لشهادة كهذه البتة، بمقدار ما تهمه شهادة العربي فيه، أو كما هو مقدَّر فيما يُكتَب عنه، حتى وإن أظهر جفاء ونقداً حاداً له .

بركات في عموم كتاباته ذات العلاقة بما يمكن تسميته بـ»الصراع العربي- الكردي» كموضوع أدبي بحت، فاعل في نصه عربياً، ومقروء فاعلاً في نصه هذا، وما أكثر القراء- النقاد لديه عربياً، وهو مهتم بهم، ليكون موضوعاً، مجسّد مظلومية الكردي الأكثر حضوراً في الكتابات التي يحرّرها بنو جلدته الكرد: بلسانهم الكردي، أو بلسان عربي وغيره.

هذه الحقيقة، وبالنسبة لمن يتوقف عنده، تستحق مكاشفة نفسية، وعلى أكثر من صعيد، حيث إن بركات يقف على مسافة من الكردي فيه، وإن تكلم الكردي، وجالسَ كردياً أو أكثر، وتحدث عمَّن هو كردي، إلا أنه واضح الصورة، صريحها، حين يسهل التعرف إليه. وهو جليس العربي وأنيسه، وهو يعايش ذاته الكتابية، حقيقته الإبداعية مع العربي، وليس مع الكردي واقعاً.

لا يخفي بركات هذه العلاقة الجانبية، بالعكس، إنه يشير إليها، وكما هو معلوم، حيث إن أدونيس الكبير شأناً في الكتابة، هو من يشكَّل عتبة الحضور الأول له، ليعرَّف به عربياً، كما نقرأ عن ذلك في مقاله ذي الدوي العاصف «محمود درويش وأنا» في «القدس العربي» 6 حزيران (يونيو) 2020، وهو في مستهل العقد الثالث من عمره: «أدونيس الذي طلب مني، وأنا في الثانية والعشرين، جمع شعري في كتاب طبعه على نفقته»، وفي مقاله هذا يشير إلى المعتبَر ولي نعمته في الظهور الأكثر حضوراً عربياً، الشاعر الراحل محمود درويش، أي في عام 1973.

بين شاعرين عربيين كبيرين، الأول الذي برز في موقع المعمّد له، والثاني الذي ظهر متبنيه ومزكّيه ليكون الكاتب الطليق بقريحته فيما بعد، وقريباً جداً، من خلال منبره الثقافي الشهير مجلة «الكرمل».

نعم، من اليسير جداً قراءة الكردي كموضوع كتابة، في نصه الروائي، وفي أمكنة مختلفة روائياً لديه: «فقهاء الظلام|، «الريش»، «عبور البشروش»، «أنقاض الأزل الثاني»، «دلشاد وفراسخ الخلود المهجورة»، «هياج الإوز»، «سبايا سنجار»، «ماذا عن السيدة اليهودية راحيل؟»….الخ. ودون نسيان البصمة الكردية في سيرتيه، ومن أربعة عقود: «الجندب الحديدي»، و»هاته عالياً هات النفير على آخره»، وفي نصوص شعرية مختلفة: «هكذا أبعثر موسيسانا»، «للغبار، لشمدين، لأدوار الفريسة والممالك»، إلى جانب نصوصه النثرية في «الأقراباذين». لكنه الكردي الذي يصوغه سليم بركات، وليس الذي يتعامل معه قريباً منه أو بعيداً عنه. ليس هناك أي كردي، يمكنه التفاخر بأنه موضوع مباشر له، أو أشيرَ إليه باسمه علانية، وذكِر في أي نص له، كما لو أنه الكردي الوحيد الذي يكتب عنه بصيغة المفرد وهو جمع في حالات شتى.

بركات ليس له أي علاقة مع أي دار نشر كردية مباشرة، لأن رهانه على دار النشر العربية، لأن رهانه على القارئ العربي، حتى وهو في مغتربه السويدي منذ أكثر من عقدين من الزمن، أي رغم الحضور الكردي اللافت هنا، وفي المحيط الأوربي، رغم وجود علاقات، سوى أنها علاقات لا صلة لها بما هو أدبي أو كتابي بالنسبة إلى بركات البتة. إذ الخط الذي اختاره لنفسه، في عملية الكتابة، وبناء العلاقات، وهو في صعود، أو يحافظ على بروزه وثباته في آن، خط عربي بامتياز.

ليس لبركات صداقات كردية، وإن وجِدت، فهي من النوع الخجول، وذات صبغة أقرب ما تكون إلى الأهلية أو العائلية، لأن التكوين النفسي لبركات لا يجد متنفساً له، كما لا يشعر بذلك التوازن النفسي، إلا مع الآخر الذي لا يتكلم لغته، اللغة الأم: الكردية، أعني به العربي. لعل بركات على بيّنة تامة، أن صداقته تتناسب وذائقته الخاصة لمن حوله، لعالمه، وللذين يمكنه الشعور بوجوده من خلاله بصورة أفضل .

وبركات له مقابلات مختلفة، وهي في مجموعها، تمت من قبل كتاب عرب، وليس هناك كاتب كردي يُعتد به، من منظوره، ليجري معه مقابلة فعلية، وتجد هذه طريقها إلى النشر، في دورية عربية.

من العربي إلى العربي يكون بركات.

في مقاله في الردّ على منتقدي مقالة «محمود درويش وأنا»، والمنشور في «القدس العربي» 29 آب (أغسطس) 2020، ثمة ما يجدر التوقف عنده، جهة طريقة رده ليس من قبيل التحليل لأبعاده، وتشخيص الأسلوب وخفايا النظرة الذاتية من لدن بركات عن كتّابه، عن قرائه، وهم عرب، وإنما عن مسار آخر يخص الجهة التي وجّه إليه «خطابه» النقدي الحاد: «من سيُلام بعد (التكفير اللغوي) على (التكفيرية العِرقية)؟ ما شأن الأكراد بمقالتي سوى أنني كردي من (ربوع) المجتمعات العربية؟ لا يدَ لنا في الهزائم العربيةِ السمادِ لكلِّ زرعٍ في الخرائط. لم (نتغنَّ) شماتةً بسفاهة (سؤدُد الطلل الدارس) من عصر إلى عصرٍ ذي سطور ناقصةٍ في نصِّ التاريخ المهترئ. أين كانت مختبئة كل هذه العنصرية التي ليست الأولى، وليست الأخيرة، في سياق (الجهاد) للتطهير؟ ما ليس نقداً عن حقٍّ، وليس تعليقاً على قدْرٍ من وجاهة المنطق، يتردَّد ارتجاجه في موضع آخر من جسد الأمة المريض. كان على المعلقين، والنُّظَّار النقاد، أن ينتبهوا إلى هُزالة تآويل الرعاع لِمَا كتبوه. كان عليهم التزام ضابطٍ أخلاقي من (أخلاق الكلام9 حتى لا تنفلت الكواسرُ. لكنهم من حيث يدرون (ربما) فكُّوا القيدَ…».

يمكن لقارئه أن يجد في هذه الكلمات مدى الاستخفاف بذائقة كاتبه، أو قارئه العربي والذي مارس تصريفاً قيمياً لمقاله «محمود درويش وأنا»، يمكنه أن يتلمس فيه تعالياً على كل هؤلاء الذين برزوا جناة قراءة وكتابة في المرسوم النقدي والحاد لبركات بالتوازي مع شعوره أنه أخرِج من نطاقه الذي التزم به، وزيدَ في تزويغه مبنى ومعنى.

ثمة نبرة تعليمية في مقاله هذا، ما يشبه النصح، وما يشبه التعرية لمن شملهم بكلامه السكّيني، سوى أنه نُشِر وقُرئ من مواقع ثقافية مختلفة، سوى أنه كان محل اهتمام العربي قارئاً عادياً، أو أكثر، كاتباً عادياً أو أكثر.

ليس في قاموس بركات الأدبي، أو الفكري، أي اهتمام بما يكتبه الكردي بلغته، أو بالعربية التي يكتبها هو بالذات، ربما أمكن القول أنه يتعالى بذلك على الكردي فيه، سوى أن هناك ما يستحق التشديد عليه، وهو أن بركات قطع الحبل المشيمي بينه وبين الكردي الذي يقرأ له أو يكتب عنه، شعوراً منه بواقع بائس يعيشه الكردي، أو ما هو دفين  سرّ لديه، جهة هذا التجاهل، أو هذا التوجه الذي لا يقيم وزناً محتسباً للكردي فيه.

هل من سر في العلاقة هذه؟

إنه عائد إلى التكوين النفسي لبركات بالذات، ليس من منظور التحليل النفسي، وإنما من منظور سياسة التعامل مع الآخر من قبله، وهي أنه يتلمس في موقعه ككاتب كردي، نعم، إنما يكتب بالعربية، ويشعر بأنه أكثر امتلاء بالوجود الذاتي وهو مقروء عربياً، وهو منقود عربياً.

يجد نفسه، وهو يوجّه سهام نقده إلى هذه الجهة أو تلك، ودون تسمية، ليكون لخطاب قوله أثر نافذ أكثر، أكثر أهلية للكتابة، ولتأكيد الذات، لحظة التعبير بالعربية. بركات، حتى وهو في أكثر حالاته حدة، وتوصيفاً لقارئه العربي بما يمس فيه كرديته عرقياً، أي بوصفها على عنصرية، يظل مأخوذاً به، نشراً وقراءة، ليس لأن منبر النشر»القدس العربي»، كمثال هنا، ينشر نصوصه ذات الحدة، وإنما لأن هناك تقديراً لذاته، وهو ما يقلّل من أي حضور للعنصرية، أو ينحّيها كداء جانباً، وهو ما يمنح قراء كثيرين له، وهم عرب، ما يشبه براءة ذمة من أي معايشة عنصرية، كما هو المتصور في متخيل كرديه.

يصمت سليم بركات كردياً، كثيراً، ليتكلم عربياً كثيراً، لعلمه أنه بذلك، يضمن حضوراً  أكثر له، وتلك مفارقة كبرى، لم تصبح بعد موضوعاً مطروحاً للنقاش، أو لأي حوار، يمكن أن يضيء سلوكياً هذا الجانب المظلم من شخصيته.